فصل: مسألة وجد فيما أوصى به على رجل منهم حق هو أكثر مما أوصى به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة وجد فيما أوصى به على رجل منهم حق هو أكثر مما أوصى به:

وسئل: عن رجل أوصى عند موته بما كان له وعليه، فوُجدَ فيما أوصى به على رجل منهم حق هو أكثر مما أوصى به، أترَى أن يشتري ما قبله؟ قال: نعم ولعله أن يكون قد وَهِمَ فأرى أن يستبرئ ما قبله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال وهو مما لا إشكال فيه والحمد لله.

.مسألة ما تركه الميت من المال لا يفي بما أوصى به لجميعهم:

وسئل: عن رجل أوصى لعمةٍ له بدين لها عليه ولقوم آخرين بديون والذين أوصى لهم من الأباعد لهم بها شهود وليس للعمة شهود، قال: لا يجوز في مثل هذا لِذَوِي الأرحام إلّا أن يكون لهم ثبت، فإن لم يكن لهم ثبت فإني أرى الأباعدَ ممن لهم ثبت أحَقّ بماله وإن كان ممن لا يتهم عليه من ذوي رحمه، وإن لم يكن لهم بينة فإني أرى ذلك لهم ثابتا.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن ما تركه الميت من المال لا يَفِي بما أوصى به لجميعهم مثل أن يكون ترك مائتي دينار فأقر لرجلين أجنبيين بمائة ومائة ولعمته بمائة فإن كان للأجنبيين بينة على مالهما كانا أحق بالمائتين؛ لأن من عليه دين يغترف مَالَه، فلا يجوز إقراره لصديق ملاطف ولا من يتهم عليه من ذوي رحمه، وإن لم يكن لهما بينة على مالهما بما أقر لهما به خَاصَّتْهُمَا العمةُ في المائتين بما أقر لها به أيضا بمنزلة إذا كانت لكل واحد منهم بينة على ما أقر لهم به، إذْ لَا حجة للأجنبيين على الميت فيما أقر به للعمة إذا لم يكن لهما بينة، إذ لو شاء لم يقر لهما بشيء، وهذا بين إذا أقر لَهُمْ معا أو أقر للعمة قبلُ، وأما إذا أقر للأجنبيين قبلُ فيتهم أن يكون أراد أن تدخل العمة عليهما فيما قد تقرر لهما ووجب بإقراره لهما أولا.

.مسألة قول الموصي وإذا مات فمرجوعه إلى ورثته:

وقال مالك في رجل أوصى بوصية وأوصى فيها بأن غلاما له يخدم فلانا ما عاش، فإذا مات فَمَرْجُوعُهُ إلى ورثته، وأوصى أن فضلةَ ثلثه لفلان، فمكث الرجل الذي أخدم الغلام يسيرا، ثم مات، هل للرجل الذي أوصى له ببقية الثلث في العبد حق أم لا؟ قال مالك: إذا رجع العبد إلى ورثة الموصي كان للذي أوصى له لبقية الثلث.
قال محمد بن رشد: مثلُ هذا في رسم أسلم من سماع عيسى لمالك أيضا من رواية ابن القاسم.
وقال عيسى بن دينار من رأيه: لا شيء للموصى له ببقية الثلث في مرجع الغلام إذا قال الموصي فإذا مات فمرجوعه إلى ورثته، وجه قول مالك أن قول الموصي وإذا مات فمرجوعه إلى ورثته لا تأثير له فيما يوجبه الحكمُ؛ لأنه لو سكت عنه لكان مرجوعا إلى ورثته أي إلى حكم ماله المورث عنه بعد الوصايا بقوله: يخدمه ما عاش، فإذا رجع إلى ورثته على هذا الوجه وجب أن يدخل فيه الوصايا، فيكون للموصى له بقيةُ الثلث؛ لأنه بقيةُ الثلث، ووجه قول عيسى إتبَاع ظاهر لفظ المُوصي في قوله: إنه يرجع إلى ورثته؛ لأن الظاهر منه أن يرجع إليهم ملكا، ولما كان لو سكت عن هذا اللفظ كان للموصى له ببقية الثلث، أعتبر اللفظُ فلم يجعله ملغا لا حكم له، فقول مالك أصح من جهة المعنى، وقول عيسى أظهر من جهة اللفظ وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي لرجل بدين فيطلب فلا يوجد:

وسئل: عن رجل يُوصِي لرجل بدين فيُطْلَبُ فلا يُوجد، قال مالك: فيتصدق به عنه، ويقال: اللهم هذا عن فلان.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه المسألة في هذا الرسم بعينه من هذا السماع من كتاب المديان والتفليس، فقال فيها: فلا يوجد ولا يعرف معناه أنه لا يعرف موضعه؛ لأنه إذا لم يعرف فلا يصح أن يؤخذ ذلك، يفترق بين أن يكون الموصى له لا يُعْرَف أو يعرف فلا يُوجَدُ؛ فأما إذا كان لا يعرف فيفترق الأمر فيه بين أن يكون الموصي يورث بِوَلَد أوْ كَلاَلَةٍ، فإن كان يورث بولد جاز إقرارُهُ من رأس المال إن أوصى أن يتصدق به عنه أو يوقف له، فإن وقف فلم يأت له طالب تصدق به على ما قاله في سماع أبي زيد، واختلف إن كان يورث بكلالة، فقيل: إن أوصى أن يحبس ويوقف حتى يأتي له طالبٌ فذلك من رأس المال، وإن أوصى أن يُتَصَدَّق به عنه لم يقبل قوله، ولم يخرج من رأس المال ولا من الثلث، قال هذا في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب المديان والتفليس، وقيل: إنه يكون من الثلث، وهذا القول قلم من كتاب المكاتب من المدونة، وقيل: إنه إن كان يسيرا جاز من رأس المال ووقف، فإن لم يأت له طالب، تصدق به، وإن كان كثيرا لم يكن في رأس المال ولا في الثلث.
قاله في سماع أبي زيد، ونحوه في أول رسم من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب.
وأما إن كان يعرف فطلب ولم يوجد فسواء كان الموصي يورث بكلالة أو ولد الوصيةُ جائزةٌ من رأس المال، ويوقف ما دام يُرْجَى وجوده فإن أيس منه تصدق به كما يُفعل باللُّقَطَةِ بعد التعريف فإن وجد صاحب الدين بعد التصدق غرمه له الذي تصدق به إلّا أن يشاءَ أن يُجِيزَ الصدقة وينزل على أجرها وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي للرجل بالعبد في وصيته وللعبد مال:

ومن كتاب البز:
قال: وسئل عن الرجل يوصي للرجل بالعبد في وصيته وللْعَبْدِ مال لمن ترى ماله؟ قال: إني لَا أرَى أن يكون شبيها بالعتق، وأن يكون مالُهُ لمن أوصى له به، قال: فقلتُ له: أفَتَرَاه مخالفا الصدقة والهبة إذا تصدق به أو وهبه؟ قال: نعم، إني لا أرى ذَلِكَ مخالِفا لهما.
قال ابن القاسم: وقد كان قال مالك قبل ذلك: هو مثلُ الهبة والبيع، ثم رجع فقال: أراه شبيها بالعتق وأن يسلم ماله للذي أوصى له به مع رقبته وثبت عليه، ورأيت مالكا مستحسنا له ومستبصرا فيه وهو أحب قوله إلي.
قال محمد بن رشد: اختلف قولُ مالك في العبد الموصى به فمرة رآهُ لِوَرَثة الموصي قياسا على البيع؛ لأن العبد الموصى به يخرج بالوصية من مِلْكٍ إلى ملك، فأشبه البيعَ، وهو أحد قوليه هنا، وقولُهُ في رسم الوصايا الأول من سماع أشهب بعد هذا، ومرة رآه للمُوصى له به قياسا على العتق، بخلاف البيع، لَمّا كَانت الوصيةُ على سبيل المعروف كالعتق، ولم يكن على سبيل المُكَايسَةِ كالبيع، وهو أحدُ قوليه ها هنا وقولُهُ في رسم العرية من سماع عيسى بعد هذا وَلَم يختلف قولهُ في الصدقة والهبة: أن المال فيهما يبقى للواهب والمتصدق كالبيع، فلا يكون تبعا للعبد كما هو في العتق إلّا أنّ الخلاف يدخل فيهما بالمعنى قياسا على الوصية؛ لأنهما أيضا من ناحية المعروف كالوصية وبالله التوفيق.

.مسألة يوصي بثلثه ويوصي فيه بوصايا فتدعي امرأته حملا:

وسئل مالك: عن الرجل يوصي بثلثه ويوصي فيه بوصايا فتدعي امرأتُه حَمْلا أترى أن تُؤَخر الوصايا حتى تضع ويستبرأ ذلك منها؟ قال: نعم، إني لأرَى أن يؤخر ذلك.
قال أشهب: تنفذ الوصايا من ثلثه قبل وضع الحمل، وخالفه أصبغ، وقال بقول مالك في سماع أصبغ من كتاب الكراء والأقضية.
قال محمد بن رشد: قولُ أشهب وأصبغ ليس في جميع الروايات، وفي المبسوط لابن نافع عن مالك مثلُ قول أشهب، قال: يعطي صاحب الثلث الثلث، وتؤخر قسمة الورثة حتى تضع المرأة، وقال ابن أبي أويس عن مالك: أرى أن تؤخر الوصايا حتى تضع المرأة ويستبرئ ذلك.
وقال محمد بن مسلمة مثل ذلك، وقال: لأنَما يهلك من يهلك من رأس المال وما زاد في رأس المال، فيكون ما أخذ الموصى له قد استوفى على غير ما أخذوا، وهو تعليل صحيح بين؛ لأن المال إن تلف في التوقيف بعْدَ تنفيذ الوصايا وجب للورثة الرجوعُ على الموصى لهم بثلثي ما قبضوا، ولعل ذلك قد فات بأيديهم وهم غرماء فيخسروا.
والاختلافُ في هذه المسألة جارٍ على الاختلاف في الموصى له بالثلث يَطْرَأ على الورثة بعد اقتسامهم التركة هل يكون حكمُهُ حكمَ الغريم يطرأ على الورثة وحكم الوارث يطرأ عليهم، فعلى القول بأن حكمه حكم الغريم يطرأ على الورثة يعطي صاحبُ الثلث الثلثَ، ويوقف سائرُ المال للورثة حتى يوضع الحمل، فيكون النِّماَءُ لهم والضمانُ عليهم لا يرجعون على صاحب الثلث بشيء إن تلف المال، ولا يرجع صاحبُ الثلث عليهم بشيء إِنْ نَمَا المالُ وعلى القول بأن حُكْمَهُ حكمُ الوارث يطرأ على الورثة يوقف جميعُ المال حتى تضع الحمل، ولا يُعَجل للموصى له بالثلث كما لا يعجل للأب السدس إذا مات ابنه وله ولد وامرأته حامل، ولا لامرأته الثمنُ حتى يوضع الحمل وان كان للأب السدس وللزوجة الثمن على كل حال وضع الحمل ذكرا أو أنثى وإن فشا فإن عجل الورثة للموصى له بالثلث الثلثَ ووقفوا بقية المال فتلف قبل أن يوضع الحملُ- وجب على قياس هذا القول أن يرجع الوارث على الموصى له بثلثي الثلث الذي قبض وإن نما المال رجع الموصى له عليهم بثلث النماء ولم يكن بينهم تراجع على قياس القول القول الثاني ولو كانت الوصية إنما هي بِعَدَدٍ من دنانير أو دراهم لوجب أن يعجل بتنفيذ الوصية وتُؤخر قسمة بقية المال حتى يوضع الحمل قولا واحدا إذْ لا اختلاف في أن الوصية بالعدد كالدين في وجوب إخْرَاجِهَا من التركة قبل القسمة لقول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ولا في استواء الحكم فيهما إذا طرأ بعد القسمة.
وقال ابن دحون: إنما وجب تأخير إنفاذ الوصايا حتى توضع الحمل؛ لأن القسمة لا تكون إلّا مع موجود، فإذا احتيج إلى القسمة لتنفيذ الوصايا وجب أن تقسم التركة، ولا يقسم نصيب غير موجود، فلابد من التأخير حتى يوضع الحمل، وهذا التعليل على قياس التعليل الأول؛ لأن القسمة لما كانت غيرَ صحيحة وجب أن يكون ما تلف أو نَمَا من الجميع، وفيه دليل على وجوبا أداء الدين قبل وضع الحمل؛ لأنه يخرج من رأس المال قبل القسمة، ورأيت في حواشي بعض الكتب، قال الباجي: شهدت ابن أيمن حَكَمَ في ميت مات وترك امرأة حاملا أنه لا يقسم ميراثه ولا يُؤَدَّى دينُهُ حتى توضع الحمل فأنكرت ذلك عليه، فقال: هذا مذهبنا ولم يأت ابنُ أيمن بحجة، والصحيح أن يُؤَدَى دينه ولا ينتظر وضع الحمل، ولا يدخل في هذا اختلاف قول مالك في تنفيذ الوصية قبل وضع الحمل؛ لأن العلة في تأخير تنفيذ الوصية إلى أن يوضع الحمل على قول من رأى ذلك هي أنّ بقية التركة قد تتلف في حال التوقيف قبل وضع الحمل فيجب للورثة الرجوع على الموصى لهم بثلثي ما قبضوا ولعلهم معدمين أو غير معدمين فلا يجدون على من يرجعون.
وأما تأخير أداء الدين حتى يوضع الحمل فلا علة توجبه، بل توجب ترك التوقيف وتعجيل أداء الدين مخافة أن يهلك المال فيبطل حق صاحب الدين من غير وجه منفعة كان في ذلك للورثة وإذا وجب أن يقضي دينُ الغائب مما يوجد له من المال مع بقاء ذمته إن تلف المال الموجود له كان أحرى أن يؤدى الدين عن الميت من تركته لوجهين؛ أحدهما: أن الميت قد انقطعت ذمته.
والثاني: أنّ الحمل لا يجب له في التركة حق حتى يولد ويستهل صارخا، ولو مات قبل ذلك لم يورث عنه نصيبُهُ، والغائب حقه واجب في المال الموجود له لو مات ورِثه عنه ورثتهُ، فإذا لم ينتظر الغائب مع وجوب المال الذي يؤدى منه الدين الآن له، كان أحرى ألّا ينتظر الحمل إذ لم يجب له بعد في التركة حق، ومن قول ابن القاسم في المدونة وغيرها أنّ من أثبت حقا على صغير قُضِيَ له به عليه ولم يجعل للصغير وكيل يخاصم عنه في ذلك، فإذا قضي على الصغير بعد وضعه من غير أن يقدم له وكيل فلا معنى لانتظار وضع الحمل لِتَأدِيَةِ دين الميت، وهذا كله بين لا ارتياب فيه ولا إشكال والحمد لله.

.مسألة حضرته الوفاة فقال قد أوصيت ووضعت وصيتي على يدي فلان:

وسئل مالك: عن رجل حضرته الوفاة فقيل له: أَوْص، فقال: قد أوصيت وكتبت وصيتي ووضعتها على يدي فلان فأنفِذواُ ما فيها فتوفي الرجل وأخرج الذي قال المتوفى قد وضعتها على يديه الوصيةَ وليس فيها شهود إلّا ما شهد على قوله من ذلك: أنه قال: قد وضعتها على يدي فلان فأنفذوا ما فيها.
قال مالك: أرى إن كان الرجلُ الذي ذكر أنها عنده عدلا أن ينفذ ما فيها.
قال ابن القاسم: وذلك رأي، قال العتيبي عن سحنون: الوصيةُ جائزةٌ عدلا كان أو غير عدل، قال يحيى: قلتُ لابن القاسم: لِمَ جوزها مالك ولم يُشْهَدْ عليها بعينها ولم يَشهد عليها إلّا الذي كانت عنده؟ قال: أراه بمنزلة الذي يوصي فيقول: قد أوصيت بوصايا أعملت بها فلتنفذ فما أخبركم أني أوصيت به فهي وصيتي فلينفذ ما فيها، فيكون ذلك ماضيا، وبمنزلة الرجل يوصي بديون لهم عليه، فيقول: قد كنت أدَايِنُ فلانا وفلانا فما أدعوه قِبَلِي فهم فيه مصدِّقون، فيكون ذلك لهم بلا يمين يستحلفون بها على ما ادعوا.
قال محمد بن رشد: اشتراطُ مالك العدالةَ في الذي قال الميت: إنه وضع وصيتَه عنده إذا أخرجها فقال هذه هي، وليس عليها شهود خلافُ ظاهر ما في المدونة والموازية في الذي قال: قد كتبت وصيتي وجعلت عند فلان فصدقوه وأنفذوا ما فيها أنه يصدق وينفذ ما فيها إن لم يشترط في ذلك عدالة مثلُ قول سحنون، وقولُه هو القياس إذ لا حجة للورثة عليه في الثلث، فله أن يجعل التصديق فيه إلى عدل وغير عدل، وقول مالك ها هنا في اشتراط العدالة استحسانٌ، وقد مضى في رسم العتق من سماع عيسى من كتاب الشهادات ما فيه بيان هذا فقف عليه.
وقولُهُ في الذي قال: كنت أدَايِنُ فلانا وفلانا فما ادعوه قِبَلِي فهم فيه مصدقون إنّ ذلك يكون لهم دون يمين يستحلفون بها خلافُ قوله في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب المديان والتفليس في إيجابه اليمين في ذلك، واختلافُ قوله في هذا على الاختلاف في لحوق يمين التهمة إذ لم يسقط الميت عنهم اليمينَ وإنما قال: إنّهم يصدقون ولم يقل بيمين ولا بغير يمين، ولو قال: إنهم يصدقون بغير يمين لَمَا سَقَطَ عنهم بإسقاطه إياها عنهم على ما مضى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم حسبما بيناه وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى أن يشترى له رقبة بثلاثين دينارا فتعتق عنه:

وسئل مالك: عن رجل أوصى أن يشترى له رقبة بثلاثين دينارا فتعتق عنه فسام الوصيُ بغلام فأبى سيدُه أن يبيعه إلّا بأربعين دينارا، فقال له أخ للغلام حر: بعه وأنا أعطيك عشرة دنانير، ولم يعلم بذلك الوصي فباعه وأعتقه، ثم علم الوصي بعد ذلك، فقال: إني لأرَى له في ذلك متكلما، فقيل له: فما تقول فيه؟ ما يتبين لي فيه شَيْءٌ قال ابن القاسم: أخبرني من أثق به عن ابن هرمز ومالك أنهما رأيا جميعا أنه عيب من العيوب يرجع به المشتري على البائع فيأخذه من الثمن.
قال ابن القاسم: وتفسيرُ ذلك أن ينظر كم ثمنُه بغير شرط العتق وكم ثمنه لو شرط فيه العتق؟ فينظركم بين القيمتين، فإن كان ذلك ربعا أو خمسا أو سدسا رجع إلى الثمن فأخذ بقدر ذلك من البائع، بمنزلة ما لو باعه وعليه دين وله امرأة أو ولد أو به عيب.
قال محمد بن رشد: قولُ مالك وابن هرمز من أن ذلك عيب يجب الرجوع للمشتري على البائع صحيحٌ؛ لأن الذي زاد العشرة دنانير قد شاركه في العبد الذي أعتق بربعه إذْ ودى رُبع الثمن إلى البائع، فصار الوصي إنما أعتق عن الذي أوصى إليه ثلاثة أرباع العبد، وتفسيرُ ابن القاسم لصفة الرجوع بقيمة العيب لا وجه له، وإنما الذي يصح في ذلك ولا يجوز غيره أن يرجع المبتاعُ على البائع بِرُبع الثلاثين التي دفع إليه؛ لأن الذي زاد العشرة قد شاركه في العبد بربعه فصار بمنزلة من اشترى عبدا فاعتقه ثم استحق منه ربعه فإنه يرجع على البائُع الثمن ويجعل ذلك في عتقٍ، وإن كانت الرقبة التي أوصى بها رقبة واجبة لم تجزه وضمن الوصي على مذهب أشهب، يغرم العشرين من ماله، واشترى رقبة أخرى فأعتقها عن الموصي، وَلَا شيء عليه على مذهب ابن القاسم في المدونة إذا لم يعلم، ويرجع بالعشرين على الورثة فيما بقي عندهم من ثلث مال الميت إن كانتَ بقيت عندهم منه بقية وبالله التوفيق.

.مسألة الموصى أيقارض بمال يتيمه الذي أوصى إليه به:

وسئل مالك على الموصَى أيقارض بمال يتيمه الذي أوصى إليه به؟ قال: نعم لا بأس به ولا ضمان عليه فيه إن هلك إذا كان قد دفعه إلى أمين والوصي ينظر لمن يليه ومن اليَتَامَى مَنْ أموالُهم الغنم من أهل البادية فيمسكها لهم، ولو باعها أكلوا ثمنها، فيقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] يخلط طعامه بطعامه وزرعه بزرعه وماشيته بماشيته.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال: إن للوصي أن يدفع مال يتيمه مضاربة؛ لأنه ينظر له بما ينظر لنفسه، وقد قال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اتجروا بأموال اليتامى لا تأكلها الزكاة ومثل هذا في الرهون من المدونة أن الوصي يتجر لليتيم بماله أو يقارض له به، ويكره له أن يعمل هو به مضاربة قال في الزكاة من تفسير ابن مزين: فإن عمل به بقراض مثله جاز ولم يكن عليه فِيه ضمان إذا تلف، وإن عمل به بأكثر من قراض مثله فغبن اليتيم في ذلك رد إلى قراض مثله وضمن المالَ إن تلف، قال يحيى بن إبراهيم: قولُه في الضمان ضعيف.

.مسألة يوصي بالوصية في مرضه ثم يصح من ذلك المرض ثم يمرض فيموت:

ومن كتاب باع غلاما بعشرين دينارا:
وسمعتُ مالكا يقول في الرجل يوصي بالوصية في مرضه أو عند سفره فيقول: إن أصابني في سفري هذا أو مرضي هذا موتٌ فجاريتي حرة، ويوصي بوصايا ثم يصح من ذلك المرض أو يقدم من ذلك السفر ثم يمكث حينا ثم يمرض فيموت وتوجد تلك الوصية بعينها ولم يذكر لها ذكرا عند موته ولا تغييرا ولا إجَازَة، قال مالك: أرَاها جائزة، قلت لَهُ: فإن أوصى بوصية أخرى ولم يذكر نقضا لتلك؟ قال مالك: يجوزَانِ جميعا إلّا أن يكون في الأخرى مَا يَنقض الأولى فيؤخذ بالآخرة.
قال مالك: وإن كان في الأولى وصيةٌ لرجل وله في الأخرى مثلُ ما سمى له في الأولى فليس له إلّا في موضع واحد، وإن اختلفَ العَدَدَانِ أخذ له بالأكثر قال مالك: وإنما أكثر ما يوصي به الرجل عند سفر أو مرض ثم يصح من مرضه أو يقدم من سفره فيقرها كما هي ويرى أن له وصية أخرى موضوعة قد فرغ منها ووثق بذلك فلا أراها إلّا جائزة، وقد قال مالك في كتاب باع سلعة سماها: إنها لا تجوز إلّا أن يكون أخرجها من يده وجعلها على يدي غيره ولم يأخذها من يده حتى مات، قال سحنون: وهذا القول من قوله أحسن.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى الكلام عليها مستوفى في أول رسم من السماع فلا معنى لِإعادته حيث ما تكررت وبالله التوفيق.

.مسألة شهادة الشاهدين في الوصية:

ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات:
وسئل مالك: عن رجل أوصى في مرضه وأوصى إلى ثلاثة نفر مع امرأته وأحدهم غائب فشهد الوصيان أن هذه الوصيةَ وصيتُه ولم يشهد عليها غيرُهما وقد كان أوصى لهما في الوصية بشيء، قال مالك: ينظر إلى حالهما وإلى ما أوصى لهما به فإن كان الذي أوصى لهما به يسيرا لا يتهمان على مثله لم أرَ أن ترد بذلك شَهَادَتُهما ورأيتها جائزة.
قال محمد بن رشد: أجاز في هذه الرواية شهادةَ الشاهدين في الوصية إن كان الذي أوصى لهما به يسيرا مع أنه أوصى إليهما، فالظاهر من قوله أنه لم يَرَ ذلك تهمة في شهادتهما ومثلُه في المدونة سواء، والمنصوص له فيها أنه لا تجوز شهادةُ الموصى إليه وإن كان طالب الحق غيرَه، وعلى هذا يأتي قولُ سحنون في آخر كتاب الأقضية، وفي سماع أبي زيد من هذا الكتاب إجازةُ الشهادة مثلُ ما يَقُومُ من هذه الرواية، وقولُه: إن كان الذي أوصى لهما به يسيرا لا يتهمان عليه لم أرَ أن تُرَدّ شهادتُهما هو المشهور في المذهب أن شهادة الموصى له بشيء يسير في الوصية جائزة، وقد قيل: إنها لا تجوز، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، واختلف على القول بإجارتها، فقيل: إنها تجوز له ولغيره، وقيل: إنها تجوز لغيره ولا تجوز له، وقيل: إن كان معه شاهدٌ غيرُه جازت له ولغيره وإن لم يكن معه شاهد غيره جازت لغيره ولم تجز له، وهو قول يحيى بن سعيد في المدونة، وقد مضى شرح هذا كله وبيانُه في رسم الأقضية الثاني من سماع أشهب من كتاب الشهادات وفي مسألة أفردناها في التكلم على هذا المعنى وما يتعلق به فلا معنى لِإعادة القول في ذلك وبالله التوفيق.

.مسألة المسلم يهلك ويترك خمرا في تركته ويوصي لرجل كيف يصنع بها:

وسئل مالك: عن المسلم يهلك ويترك خمرا في تركته ويوصي لرجل كيف يُصْنَعُ بها؟ قال: لا أرى أن يَكْسِرَهَاّ حتى يأتي بها السلطان فيعمله بذلك خوفا ممن يأتي بعده أن يُضمنه، وقد قال مالك في الخنزير يقتل.
قال محمد بن رشد: إنما قال في الخنزير: إنه يقتل دون أن يرفع الأمر في ذلك إلى السلطان، وإن الخمر لا يكسرها حتى يرفع الأمر في ذلك إلى السلطان؛ لأنّ الخنزير لا اختلاف في وجوب قتله، والخمر قد اختلف في جواز تخليلها وترك كسرها إذ قد قيل: إن المنع من تخليلها عِبَادَةٌ لا لِعِلة، وقيل: إنما منع من ذلك لَعَلّه ممن قال: إن المنع من ذلك إنما هو لعلة إجازته في الموضع الذي ترتفع فيه العلة، وقد اختلف في العلة ما هي؟ فقيل التعدي والعصيان في اقتِنَائِهَا، فعلى هذا القول يجوز لمن تخمر له عصير لم يرد به الخمر أن يُخلله، وقيل: بل العلة في ذلك التهمةُ لمُقتنيها ألّا يخللها إذا غاب عليها فعلى هذا القول يجوز لمن اقتنى خمرا ثم تاب أن يخللها، فعلى هذين القولين لا يجوز للوصي أن يهريق الخمر إذا وَجَدها في تركة الميت ويجب عليه أن يخللها، فلهذا رأى مالك للوصي ألّا يكسرها إلّا بِأمْرِ السلطان لئلا يُضَفَنَ إياها على هذين القولين إن كان مَذهب الحاكم الذي يرتفع إليه الأمر أحدهما، وسيأتي في سماع عبد الملك القولُ في الشطرنج يجده الوصي في تركة الميت وبالله التوفيق.

.مسألة قال عند موته وصيتي عند فلان فلما مات أخرج الوصية فإذا هي عتق وغيره:

وسئل مالك: عن رجل قال عند موته: وصيتي عند فلان رجل سماه وأشهد على ذلك، فلما مات أخرج الوصية فإذا هي عتق وغيره.
قال مالك: لا أرى مثل هذا إلّا جائزا وأبينُ ذلك لو كتب وصيتين ووضع عند كل رجل وصية، فإذا مات جازتا إذا اتفقتا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما مضى في رسم البز، وقد مضى الكلام عليها وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى بعتق رقيقه ولرقيقه رقيق:

وسئل مالك: عن رجل أوصى بعتق رقيقه ولرقيقه رقيق، قال مالك: يعتق رقيقه ويقر رقيق رقيقه مماليك بأيديهم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه على مذهبه في العبد يملك، بدليل قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ «من باع عبدا وله مالُ فماله للبائع إلّا أن يشترطه المبتاع» فأضاف المال إليه إضافة الملك، وَلِذَلك يَطَأُ بملك يمينه، إذ لو لم يكن مالكاَ ليمينه لَمَا جاز له الوطء بملك يمينه؛ لِأن الله تعالى لم يبح الفرج بما عدا النكاح وملك اليمين، ومال العبد تبع له في العتق، بخلاف البيع، فوجب إذا أعتق عبدَه وله عبدٌ أنّ عبده يبقى بيده رقيقا له، وكذلك إذا أوصى بعتقه، وكذلك قال في المدونة: إن الرجل إذا حلف بعتق عبيده لا يعتق عليه عبيد عبيده، ولا يدخل الاختلافُ في هذه المسألة من قوله إن العبد إذا مَلَك من يُعتق على سيده يعتق عليه، وإن الرجل إذا حلف لّا يركب دابة فركب دابة عبده أنه حانث، ومن حمل ذلك على أنه اضطراب من قول مالك في أن العبد يملك فقد أخطأ، وليس هذا موضع التكلم على الفرق بين الموضعين وإنما يعتق رقيقُ الرقيق إذا أوصى بعتق الرقيق على مذهب الشافعي وأبي حنيفة في أن العبد لا يملك، وأن جميع ما بيده ملك لسيده فلا يجوز له على مذهبهما الوطء بملك يمينه، ويزكي السيدُ مالَه مع مالِه وبالله التوفيق.

.مسألة هلك ولابنه إبل فكانت إبله عند رجل فجاء أولياء الصبي فقالوا نبيع حيوانه فإنه صغير:

ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت:
قال: وسئل عن رجل هلك ولابنه إبل فكانت إبلُهُ عند رجل فجاء أولياءُ الصبي فقالوا: نبيع حيوانه فإنه صغير والحيوانُ تتلف والدنانير خير له، فقالت أمه ومن هو منه بسبيل: تُقَرُّ إبله ولا تباع، ويباع من رقابها ما يكون فيه نفقته.
قال مالك: من الناس من أصل ماله وعُهْدَتُهُ ومن يرى الناس له فيه الخير والنماء الماشيةُ، أولئك أهل العمود من أهل البادية، وليس يؤمر أولئك وهم صغار كلما هَلَكَ منهم هالك وترك ولدا صغيرا أن يبيعوا ماشيتهم، وينظر في ذلك فإن كانت الِإبل أمثلَ للغلام فيما يرى أهلُ العلم والمعرفة بذلك، وكان هو من أهل المواشي الذين يتخذونها أُمْسِكَتْ له وإن أراد غير ذلك، فليتبع الذي هو خير للغلام.
قال محمد بن رشد: هذا من وجه النظر لليتيم بين على قاله مالك فلا وجه للقول فيهِ بالله التوفيق.

.مسألة يهلك فيوجد في بيته وصية ورجلان يشهدان أنه كتابه بيده:

وسئل: عن الرجل يهلك فيوجد في بيته وصية ورجلان يَشْهَدان أنه كتابه بيده.
قال مالك: لا تجوز وصيتُه وعسى أن يكون لهم يعزم على ذلك وإنما كتبها ووضعها.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن الرجل قد يكتب وصيته وهو متوان فيها غيرَ عازم على إنفاذها ولا يتبين عزمه على إنفاذها إلاّ بالإشهاد على ذلك أو على وضعها على يدي أحد، وكذلك الطلاق والصدقة إذا كتب الرجل طلاق امرأته بيده وأمسكه عند نفسه ولم يشهد عليه لا يؤخذ منه ويصدق في أنه لم يكتب مجمعا على الطلاق وإنما كتبه ليستشير وينظر، فإن رأى أن ينفذه أنفذه، وإن رأى ألّا ينفذه تركه، وإذا كتب بالصدقة كتابا بيده وأمسكه عند نفسه ولم يشهد عليه لا يؤخذ به، ويصدق في أنه إنما كتب ليستشِير في ذلك وينظر على ما قاله في أول رسم من سماع أشهب من كتاب طلاق السنة، فإن أرسل الكتاب بالطلاق أو الصدقة لزمه ذلك، وكان بمنزلة الِإشهاد ولم يصدق إن أرَاد أن يرده قبل أن يصل وزعم أنه إنما أرسله على أن يرده إن شاء على ما في سماع أشهب خلافُ مذهبه في المدونة وبالله التوفيق.

.مسألة أوصى لوارث بما مرجعه إلى غير وارث:

وسئل مالك: عن امرأة أوصت بأن جاريتي تخدم ابني حتى يبلغ ثم هي حرة فقيل لها: إن هذا لا يجوز، فقالت: إن كان لا يجوز فثلثي يحج به عني.
قال مالك: يجوز أمرُ الجارية وتكون الخدمة بين الورثة حتى يبلغ الولد وتعتقه، قال أصبغ: فإن مات الغلام قبل بلوغه نظر فإن كانت من رقيق الحضانة عتقت وإن كانت من وغد الخدم خدمت الورثة إلى مبلغ الغلام ثم عتقت، وإن ماتت الخادم قبل بلوغ الغلام وتركت مالا فهو بين الورثة على كتاب الله.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة على معنى ما في المدونة وغيرها من أن من أوصى لوارث بما مرجعه إلى غير وارث يدخل معه الورثة فيما أوصى به للوارث إلى أن يرجع إلى غير الوارث، وأن من أوصى لابنه أو لغيره بخدمة عبد حياته أو سنين معلومة أو حتى يبلغ ثم هو حر فمات قبل أن يبلغ أو قبل انقضاء السنين أنه يعجل له العتق وإن كان من عبيد الحضانة وإن كان من عبيد الخدّمة لم يعتق حتى ينقضي أمَد الخدمة بحد بلوغه أو انقضاء السنين وتكون الخدمة لورثته وبالله التوفيق.